دراسات إسلامية
القلم في التراث العربي والإسلامي
بقلم : الأستاذ صلاح عبد الستار محمد الشهاوي (*)
القلم صغير الرسم، نحيل الجسم، خفيف الحمل، جميل العلم ، كبير العزم،
طويل الجهد، قوي الواقع، سيف إذا سل، غيث إذا همل، به تكتب المناجاة، وتمحي
المعناه، به يرسم الخيال، ويوضح الجمال، به يفرج عن المكروب، ويواصل المحبوب،
يحتاجه الناس ، وهو دائم رافع الرأس، فإذا نكس برأسه أينعت له رؤوس ، فكتبه هو
المحسوس، وهو يوجد في كل مكان، لأنه لا يستغني عنه إنسان، وهو الموثق، وهو المشوق،
وهو المعوق، يبقى تأثيره، إلي أجيال كثيرة.
* القلم في اللغة:
القلم ( محركة ) اليراعة ، وهو
الذي يكتب به ، والجمع أقلام وقِلام ( بالكسر ) . وقال ابن سيده : وما في التنزيل لا
أعرف كيفيته ، قال أبو زيد محرماً : سبق القضاء وجفت الأقلام.
والقلم
: السهم الذي يجال بين القوم في القمار ، وجمعها أقلام ، وفي التنزيل العزيز
(وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلقُوْنَ أَقْلاَمَهُمْ أيُّهُم يَكْفل مَرْيَم )
قيل معناه سهامهم ، وقيل أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة . قال الزجاج :
الأقلام ها هنا القداح ، وهي قداح جعلوا عليها علامات ، يعرفون بها من يكفل مريم
على جهة القرعة . وإنما قيل للسهم القلم لأنه يقلم أي يبرى ، وكلما قطعت منه شيئاً
بعد شيء فقد قلمته ، من ذلك القلم الذي يكتب به ، وإنما سمي قلماً لأنه يُقلم مرةً
بعد مرة .
والقلم: ما يكتب به، قلم
العود يقلمه قلماً: قطع منه شيئًا. ويقال: قَلَم القلم ونحوه: براه وقَلَم الظفر:
قص ما زاد منه ومنه القلم لأنه يقطع شيء من طرفه ليسوي فهو علي وزن فعل بمعني
مفعول مثل سلب وقدر كما جاء في معجم ألفاظ القرآن الكريم. والقلم أيضا يطلق علي
السهم أو القدح – يجال بين القوم في القمار أو القُرعةُ و جمعه أقلام وهو جمع قلة وكثيرا ًما
يستعمل في الكثر. وفي المعجم الوجيز: القلم: ما يكتب به وقلم الحبر: قلم مداده
مخزون لا يسيل علي سنه إلا وقت الكتابة وقلم الرصاص:قلم سنه من الجرافيت لا مداد
له ويقال جف القلم: قضي الأمر وابرم . وعند الخطاطين: نوع من الخط. يقال مثلاً:
يكتب بالخط النسخي وفي اصطلاح الدواوين: قسم من أقسام الديوان ... الجمع أقلام.
والقلامة ما قطع من طرف الظفر أو الحافر أو العود وقلامة الظفر: مَثَلُ في القلة والحقارة
يقال: لم يُغنِ عني قلامة ظفر والمقلمة: وعاء الأقلام.
ولقد تعددت مسميات القلم –
الذي هو أداة الكتابة –
فمنها المذبر أو المزير الذي يزير به أي يكتب به، وقيل اليراع ، والمرقم . ولكن
أكثر هذه التسميات شيوعاً القلم. وقد تعددت الآراء كذلك حول اشتقاق هذه التسمية .
فقيل القلم .لأنه قُلِم أى قُطِعَ وسُوي كما يقلم الظفر، وكل عمود يقطع ويجز رأسه
ويقلم بعلامة فهو قلم. وكذلك قيل للسهام أقلام، قال الله تعالى «إذْ يُلْقُوْن
أَقْلاَمَهُم أَيُّهُم يَكْفُلُ مَرْيَم» (آل عمران 44) وكانت سهاماً مكتوبةً
عليها أسماؤهم. وذكر القلقشندي أنها سميت أقلاماً لاستقامتها كالقداح . وقيل هو
مأخوذ من القُلام وهو شجر رخو، فلما ضارعه القلم سمي قلماً.
* القلم في التراث الجاهلي....
نال القلم اهتمام جميع الأمم منذ أن عرفت
الكتابة، واختلفت أشكاله والمواد التي يصنع منها باختلاف المواد التي يكتب عليها ،
فكانت الأقلام تتخذ عند السومرين القدماء من أهل العراق من الحديد أو الخشب ليضغط
بها على الطين لرسم الخطوط المسمارية ، ومنها ما كان يكتب من الرأسين، وفي مصر كتب
الفراعنة على الأحجار بأقلام الحديد ونقشوا أدق الصور وكتبوا على البردي بقلم البوص
أو الفرجون. واستخدم العرب في الجاهلية القلم في التموين، وعندما كانت تُلجئهم
الحاجة إلى أن يسجلوا بعض شؤونهم ، في وقت لا يكون معهم قلمهم المبري المقطوط
ودويُهم الملأى بالمداد. كانوا يستخدمون غالباً مواد طباشيرية أو فحمية تترك أثرها
على ما يكتب عليه. بل إنهم استخدموا أدوات حادةً كالسكين لنقش الكتابة على المواد
الصلبة.
وتشير النصوص إلى أن القلم في الجاهلية
كان مصنوعاً من القصب . يقط ويقلم أو يبري ثم يغمس في مداد الدواة ويكتب به. عن
عبد الله بن حنش قال: «رأيتهم يكتبون على أكفهم بالقصب عند البراء» وإذا كان العرب
قد اهتموا بتجويد الخط وإتقانه في ذلك العصر، فإن النتيجة المنطقية لذلك ، هي أن
يعتنوا بصناعة القلم، أداتهم لذلك.
والباحثون في الأدب العربي حين يحددون
العصر الجاهلي لا يتسعون في الزمن بحيث يجعلونه كل ما سبق الإسلام وإنما يطمئنون
إلي التحديد التقريبي الذي ذهب إليه الجاحظ في كتابه الحيوان حين قال: «أما الشعر
فحديث الميلاد صغير السن. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له – إلى أن جاد الله
بالإسلام – خمسين ومائة عام وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام»
وهي الحقبة التي تكاملت للغة العربية خصائصها. والأمر الذي لا يقبل جدلاً حوله هو
أن العرب في العصر الجاهلي كانوا يعرفون الكتابة ( غير أن صعوبة وسائلهم جعلتهم لا
يستخدمونها في الأغراض الأدبية الشعرية والنثرية) ومن ثم استخدموها فقط في الأغراض
السياسية والتجارية، هذا ما تشير إليه كثير من الدراسات ( أن العربي في العصر
الجاهلي كان يعرف الكتابة وأنه كثيرًا ما استخدمها خاصةً في الأغراض السياسية
والتجارية )..
والكتابة كانت معروفةً في مجتمع المدن
خاصة المدن التجارية، ومكة أوضح مثال لهذه المدن فقد كانت الكتابة أمراً حيوياً
لابد منه لقيام حياة اقتصادية منظمة بها. وعنصراً أساسياً من عناصر الحياة فيها.
أما في مجتمع البادية ( فإن الأدلة التي تثبت استعمال البدو للكتابة هزيلة) ولكن
هذا لا يمنع أن يكون أفراد من هذا المجتمع قد عرفوها واستخدموها في بعض شؤون
حياتهم علي نحو ما نعرف عن النابغة الذبياني والربيع بن زياد العبسي و الزبرقان بن
بدر وكعب وجبير ابني زهير ولبيد، نستدل علي ذلك بكثرة ألفاظ اللغة الدالة علي
القلم والورق في شعرهم مثل. اليراع والأنبوبة والقرطاس والطرس والرق والصحيفة ومن
الألفاظ الدالة علي الكتب الصك –
الزبور –
الرقيم – السفر- الوصيرة الخ .... كما أن الشعر الجاهلي لم يحفظ عن طريق
الرواية والسماع فقط وإنما كانت الوسيلة الأولي لحفظه القلم والكتابة ويستدل علي
ذلك بكثرة ورود كلمتي الكتابة والقلم في ألفاظ الشعر الجاهلي أو في بعض تشبيهاته
وصوره ، كما شاع عن شعرائهم تشبيه الأطلال ورسوم الديار بالكتابة والنقوش ،فالمرقش
الأكبر يقول مشبهًا بقايا أطلال منزل الحبيبة ببقايا أثار سطور خطها قلم:
الدار قفر والرسوم
كما
رقش في ظهر الأديم
قلم
وكما يقول الأخنس بن شهاب التغلبي:
لابنـة حطّان بن
عــوف منازل
كما رقش العنوان في
الرق كاتب
( والرّقّ: الجلد الرقيق يكتب عليه)
ويستهل لبيد معلقته بأبيات يصور فيها
أيضاً بقايا أطلال الحبيبة تصويرًا أقرب إلي تصوير المرقش حيث يقول:
عفت الديار محلها
فمقامها
بمني
تابد غولُها فرجامُها
فمدافع الريان عري
رسمها
خلقاً كما ضمن
الوحي سِلامه
(الوحي: الكتابة ، والسلام : الحجارة
البيض التي كانوا يكتبون عليها وكانوا يكتبون أيضاً في الأدم ، أو الأديم الذي مر
في بيت المرقش ، وهو الجلد المدبوغ يكتب عليه ، كما كانوا يكتبون في عسب النخل.)
ويستمر لبيد في معلقته فيقول:
وَجلا السيولُ عن
الطلول كأنها
زبر تجدُ متونها
أقلامها
( الزبر: جمع زبور وهو الكتاب)
ويقول سلامة بن جندل وهو فارس جاهلي
معروف:
لمن طلل مثل الكتاب
المنمق
خلا عهده بين
الصُلَيبِ فمُطرقِ
(الصليب ومطرق: اسمان لمكانين)
كذلك نجدهم يذكرون الصحف والصحائف والكتب
التي تعني بالرسائل ، كما ورد في قصة مقتل طرفة بن العبد: روي أن طرفة بن العبد
الذي كان يمدح الملك عمرو بن هند، أحد ملوك المناذرة ( الذين أسست دولتهم عام240 م
واستمر حكمها حتي سنة 633م حين فتح عاصمتهم الحيرة – خالد بن الوليد-)
قد انقلب على الملك وهجاه، فصمم – عمرو بن هند – على التخلص من طرفة ومن خاله الشاعر المتلمس، وما كان منه إلا
أن حمل كلاً منهما كتاباً إلى عامله على البحرين، وفي كل كتاب أمر بقتل حامله،
بينما الشاعران يظنان أن فيهما أمر بجائزة لهما، وفيما هما في الطريق ساور الشك
صدر المتلمس فارتاب في أمر كتابه ، ففك ختمه، وجاء إلى غلام من أهل الحيرة فقال له
: أتقرأ يا غلام ؟ فقال: نعم ، فأعطاه الصحيفة فقرأها فقال الغلام : أنت المتلمس؟
قال : نعم ، قال: النجاة! فقد أمر الملك بقتلك ، فأخذ الصحيفة وقذفها في جدول اسمه
كافر ثم أنشأ يقول:
وألقيتُها بالثني
من جنب كافر
كذلك ألقي كلّ رأيِ
مضلل
رضيت لها بالماء
لما رأيتها
يجولُ بها التيار
في كل جدول
وهرب المتلمس إلي الشام وعند وصوله أنشأ
يقول:
من مبلغ الشعراء عن
أخويهم
نبأ فَتَصْدُقُهم
بذاكَ الأنفُسُ
أوى الذي عَلق
الصحيفة منهما
ونجا حذار حياته
المتلمس
أما طرفة الذي لم يشك في أمر صحيفته، فقد
مضى إلى حتفه.
وقد ردد الشعراء مثل هذه الصورة كثيراً في
أشعارهم ، وما من ريب في إنّ ذلك يؤكد أن الكتابة معروفة في العصر الجاهلي ، كذلك
كانوا يكتبون عهودهم السياسية، وكانوا يسمون تلك العهود المكتوبة «مهارق» وقد جاء
ذكر هذه المهارق في معلقة – الحارث بن حلزة – مشيراً بها إلي ما
كتب من عهود بين بكر وتغلب إذ يقول:
واذكروا حلف ذي
المجاز وما
قدم فيه العهود
والكفلاء
حذر الجور والتعدي
وهل
ينقض ما في المهارق
الأهواء
كما نجد هذه الصورة لدي شعراء آخرين وكان
بعض الشعراء الجاهليين يكتبون أشعارهم بل كتب بعضهم- كلقيط بن معمر الأيادي- رسائل
شعريةً إلي قومه وكان بعضهم يعرف لغات أجنبية كعدي بن يزيد الذي كان يعمل في بلاط
ملك الحيرة وليس أدل علي معرفة الجاهليين الكتابة والقراءة من أن معلقاتهم الطوال
كانت تذاع وتشتهر بين الناس بسبب تعليقها مكتوبة علي جدار الكعبة المشرفة.
* القلم في التراث الإسلامي...
حين جاء الإسلام كانت أول كلمة ربانية
نزلت علي الرسول صلي الله عليه وسلم هي «اِقْرأ باسْمِ رَبّكَ الذِيْ خَلَقَ» وفعل
القراءة فعل ماكر إنه العملة ذات الوجهين إذ لا يمكن القيام بالقراءة إلا من خلال
فك رموز الشفرة المرسومة كتابةً أو رسماً أو لوناً ولهذا كانت متواليات الآيات
تزيد من الإفصاح والتوضيح «اِقْرَأ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم الذي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
عَلّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم» ففعل القراءة /التعلم رهين بالقلم. وما القلم
إلا وسيلة وما الوسيلة إلا ضرورة للكتابة....
* القلم في القرآن:
ورد ذكر القلم في القرآن الكريم
أربع مرات، حيث جاء مرتين بصيغة المفرد ومرتين بصيغة الجمع، فورد بصيغة المفرد في
قوله تعالى (ن وَالْقَلَمَ وَمَا يَسْطُرُوْن) «القلم : آية 1» وقوله سبحانه
وتعالى: (اقْرَأ وَرَبُّكَ الأكْرَم، الذي علم بالقلم ) «العلق : 3 ، 4».
وهذا بيان لفضل القلم الذي يكتب
به الناس العلوم والمعارف. وفي الإشادة بالقلم والكتابة إشادة بفضل الكتابة
والقراءة ؛ فالقلم أخو اللسان ونعمة من الرحمن على عباده ؛ وفي القلم البيان وبه
قوام العلوم والمعارف.
كما
ورد بصيغة الجمع ، في قوله سبحانه وتعالى: (ذٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ
نُوْحِيْهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُوْنَ أَقْلَامَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَم وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُوْن ) «آل
عمران : 44»، وفي قوله سبحانه وتعالى: (وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ
أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهٍِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ
كَلِمَاتُ اللهِ) «لقمان: 27». ولمكانه القلم في الإسلام وضعه الله عز وجل في أرفع مكان
قال تعالي: «ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُوْن» القلم آية 1.
فأقسم بالقلم كما أقسم بما
يخط بالقلم. وأول ما نزل من القرآن الكريم هو قوله تعالي «اِقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ
الذيْ خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقِ اِقْرَأ وَرَبُّكَ الأكْرَم الذي
عَلَّمَ بِالقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم» (العلق آيات:1: 2: 3 :4)
وقد ذكر القلم في القرآن الكريم أيضاً في الآيتين «وَلَوْ أنما في الأرْضِ مِنْ
شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّه مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا
نَفِدَتْ كَلِمٰتُ اللهِ» (لقمان آية 27) «وَمَا كُنْتَ لَدَيْهم إذ
يُلقُوْن أَقْلَامَهُم أيهم يَكْفُلُ مَرْيَم» (آل عمران آية 44) يقول المفسرون في تفسير هذه الآية-يصح أن يراد
بها أقلام الكتاب من الأحبار التي كانوا يكتبون بها التوراة وقد آثروها تبركاً بها
فجعلوا عليها علامات واقترعوا بها علي من يكفل مريم ويصح أن يكون المراد بالأقلام
هنا سهاماً أعدوها وجعلوا عليها علامات وألقوا يستهمون بها علي من يكفل مريم.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن
أول ما خلق الله القلم «و» إن أول ما خلق الله البراع ثم خلق من اليراع القلم»
وعن مكانة القلم في التراث
الإسلامي نطالع ما ذكره – أبي بكر الصولي في أدب الكاتب – أول ما نزل من القرآن هو قوله تعالي
«اِقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ الذيْ خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَق اِقْرَأ
وَرَبُّكَ الأَكْرَم الذي عَلَّمَ بالقَلَمِ عَلّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم»
فجعل تبارك اسمه أول ما أنزل في القرآن ذكر التفضل علي عباده بخلقه وأتبع ذلك بذكر
الإنعام عليهم بما علمهم من الكتاب الذي به قد أتم أمر دينهم ودنياهم واستقامة معا
ئشهم وحفظها ولولا أن من لا يحسن الكتابة يجد ممن يحسنها معونةً وأبانه عنه لما
استقام له أمر ولا تم له عزم وكان محل الصور الممثلة والبهائم المهملة- ولهذا قال
المؤرخون- إن الانتقال من النزعة الشفاهية إلي النزعة الكتابية علي مستوي الإبداع
والفكر قد حدث مع نزول القرآن الكريم وأن القرآن الكريم نفسه هو النموذج الكتابي
الأول الذي يفارق النماذج الشفاهية بإعجازه ويكتمل المعني إذا عرفنا أن أول ما
أنزل من القرآن الكريم كان أمرًا بممارسة فعل القراءة الذي هو الوجه الأخر لفعل
الكتابة ومما جاء في أول ما نزل من القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالي «عَلَّمَ
الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم» بواسطة القلم الذي به جمع القرآن وحفظت الألسن و
الأثار و وكدت العهود وأثبتت الحقوق وسيقت التواريخ وبقيت السكوك وأمن الإنسان
النسيان وقيدت الشهادات وتم الميثاق بين
المخلوق وخالقه في الإسلام الذي أكد كتابه الأكبر حضوره الكتابي؛ لذا فإن القلم
أشرف أدوات الكتابة وأعلاها رتبةً ، وغيره من آلات الكتابة كالأعوان.
وأدرك المسلمون أهمية القلم، وعُنُوْا
بصناعته، خاصة ورسول الله صلى الله عليه وسلم حث على صناعة الأقلام، فقد رُوِيَ
أنه قال: «من قلّم قلماً يكتب به علماً أعطاه الله شجرةً في الجنة خير من الدنيا
وما فيها».
وكان لنزول القرآن باللغة العربية،
وانتشار الإسلام وتأسيس دولته، ثم ما صاحب ذلك من مراحل تحوّل حضارية كالتعريب
والترجمة ومعرفة العرب بصناعة الورق، بالإضافة إلى ظهور مواهب الخطاطين المسلمين
الذين أجادوا فنون الخط وعملوا على إتقانه، أثر كبير في تطور صناعة القلم .
وصُنَعُ القلم قديماً من لب الجريد
الأخضر، لكن استخدام القصب- نوع من البوص- في صناعتها كان سائداً، لما له من
مزايا. فالأقلام المصنوعة من القصب تظهر قواعد الخط ، وهي سهلة الاستعمال ، وطوع
يد الكاتب يقطعها كما يشاء ، بحسب حجم الكتابة ونوع الخط ،بالإضافة إلى أن متانتة
تسمح بكتابة رفيعة جداً .
وهناك أدوات ارتبطت بالقلم لا يصح إلاّ
بها ، سواء التي تستعمل في صناعته ، كالمبراة أو السكين والمقط وغيرها، أو أدوات
الكتابة كالدواة، أو المقلمة التي يحفظ بها أو يوضع فيها والتي كانت غالباً متصلة
بالدواة ونادراً ما انفصلت عنها.
وبراية القلم كانت من
العمليات الأساسية في صناعته ،إذ القلم لا يسمي قلماً حتى يبري ، وإلا فهو قصبة.
وكانت السكين هي الأداة المستعملة في بري القلم
ونحته وشقه ، ثم قطه ليعاد بريه ،
من حين لآخر.
وكانت الأقلام المصنوعة من القصب تحتاج
إلى أدوات أخري حتى يمكن الكتابة بها فهي في حاجة إلى دواة التي تمدها بالمداد.
وكذلك كانت تستخدم أدوات أخرى لتنظيف القلم والمحافظة عليه كالوقيعة، وهى خرقة
يمسح فيها الكاتب قلمه، وكذلك الرغميد أو الغلاف أو القمجار وهو ما يدخل فيه القلم
للمحافظة عليه، وتعتبر المقلمة من أشهر أدوات الحفاظ على الأقلام وقد تكون من
الدواة نفسها. أو تكون منفصلةً عنها وقد لا تعد من آلات الكتابة لكونها من جملة
الدواة غالباً .
وقد سعي المسلمون إلى تطوير القلم. بحيث
يكون أداةً متكاملةً لا حاجة له إلى الدواة التي تمده بالمداد ،والتي تلازمه
ملازمةً دائمةً ، ويصعب حملها والتنقل بها في كل وقت . وقد حدث هذا التطوير في
بداية القرن الرابع الهجري. العاشر الميلادي علي يد أحد الخلفاء الفاطميين
البارزين- المعز لدين الله الفاطمي- . وكان ذلك بتخيل الصورة التي يكون عليها قلم
ممتلئ بالحبر في جوفه ، ولا يحتاج إلى دواة معه ، ووصف هذا التخيل للصانع ومتابعة
التنفيذ.
* القلم في تراثنا النثري:
تكشف أقوال الحكماء والبارزين في التاريخ
الإنساني كله عن منزلة القلم وأهميته ويكفي أن نشير إلى أن أثره فضيلة الخط الذي
هو – لسان اليد، ورسول الضمير، ودليل الإرادة الناطق عن الخواطر،
وسفير العقول، ووحي الفكر وسلاح المعرفة، ومحادثة الأخلاء على التنائي وأنس
الإخوان عند الفرقة. ومستودع الأسرار، وديوان الأمور، وترجمان القلوب، والمعبر عن
النفوس، والمخبر عن الخواطر، ومورث الآخر مكارم الأول، والناقل إليه مآثر الماضي
والمخلد له حكمته وعلمه ، والمسامر للعين بسر القلب ، والمخاطب عن الناصت ،
والمجادل عن الساكت، والمفصح عن الأبكم، والمتكلم عن الأخرس .
يقول الجاحظ – ليس في الأرض أمة
بها طرق (قوة) أو لها مسكةُ (عقل) ولا جيل لهم قبضُ وبسط إلا ولهم خط. فأما أصحاب
الملك والمملكة والسلطان والجباية والديانة والعبادة فهناك الكتاب المتقن والحساب
المحكم وما يصل بين الكتاب والحساب هو القلم – ويقول أيضاً –
إن اللسان لا يجر ي مجر ي القلم ولا يشق غباره أو يتكلف بعد غايته فأثره ضائع
وحضوره مؤقت ومداه موصول بمدي الصوت الذي سرعان ما ينقطع أما القلم فهو علامة
الحضور المتصل والزمان الممتد للكتابة.
* قالوا في القلم :
قال ابن المعتز: القلم يخدم الإرادة ولا
يمل الاستزادة، يسكت واقفاً، وينطق سائرًا.
وقال ابن المقفع: القلم بريد القلب ، يخبر
بالخير وينظر بلا بصر.
وعن القلم يقول عبد الحميد الكاتب –
القلم شجرة ثمرتها الألفاظ والفكر بحر لؤلؤه الحكمة.
وقال ابن المقفع – القلم بريد القلب
يخبر بالخبر وينظر بلا نظر.
وقال العتابي- الأقلام مطايا الأذهان-.
وقال سهل بن هارون- القلم أنف الضمير إذا
رعف(تحرك) أعلن أسراره وأبان أثاره-.
وقال ابن أبي دؤاد –
القلم سفير العقل ورسوله الأنبل ولسانه الأطول وترجمانه الأفضل-.
وقال أيضاً: القلم سفير العقل ورسول الفكر
وترجمان الذهن.
وقال أحمد بن صلاح- القلم لسان البصر يناجيه
بما استتر عن الأسماع إذا نسج حلله وأودعها حكمه-كما قال – عبرات الأقلام في
خدود كتبها أحسن من عبرات الغواني في صحون خدودها.
وقال عمرو بن مسعده- الأقلام مطايا الفطن.
وقال أحمد بن عبد الله –
القلم راقد في
الأفئدة مستيقظ في الأفواه. وقال ابن ميثم – من جلال شأن القلم
أنه لم يكتب لله تعالي كتاب قط إلا به.- وقيل عقول الرجال تحت أقلامها.
* القلم في التراث الشعري...
كان القلم من أعز الهدايا التي يتبادلها
الأصدقاء والخلان من الكتاب وغيرهم ،كما أنه كان من أعز ما يمتلك الكاتب والأديب ،
حتى أن هناك منهم من قرض فيه الشعر ، ومن أطرف ما يقال في ذلك أن أحدهم رثي قلماً
سرق منه ، وآخر حزن على كسر سن قلمه. وعبر عن حزنه بأبيات القصيد.
والقلم بالنسبة إلي الشعر رمز الخلود
وعلامة الحضور المتصل والزمان الممتد لذا قال الشاعر:
تعلمن أن الدواة
والقلم تبقي
ويُفني حادث الدهر
الغنم
* أما الحسين بن يحيي فيقول راثياً قلما
انكسر:
ما عيِبَ طولاً ولم
يُعبَ قصرا
عَري من دقــة
ومــن عظم
كان إذا ما تضايقت
سبل الـ
لفظ كفـاني
مخـــارج القلم
لا حصر القول عند
خطبته
وليس في قـــول
بمتهــم
* وعن القلم يقول عدي بن الرقاع
العاملي في وصف طرف قرن الرشأ (ولد الظبي)
وتشبيهه بالقلم في بيته الذي يقول:
تُزجي أغن كأن إبرة
روقـــه
قلم أصاب من الدواة
مدادها
وهو البيت الذي فتن الكثيرين بتشبيهه طرف القرن المدمي بالقلم
الذي أصاب المداد.
* ويروي الصولي أن عبد الله بن المعتز جاء
إلي أبي العباس أحمد بن يحيي في المسجد الجامع ليسلم عليه فقام وأجلسه مكانه فداس
ابن المعتز قلماً فكسره فلما جلس قال لمن حوله:
لكفي وتـر عنــد
رجلي لأنها
أثارت قتيلاً ما
لأعظمه جبرُ
فعجب الناس من سرعة
بديهته.
* ولعل أشهر أبيات الفخر بالنفس
بذكر القلم قول المتنبي :
فالخيل والليل والبيـــداء تعـــرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
* وقال شاعر يصف جارية تكتب خطاً حسنًا
وقلما الأسمر المرهف الناطق السميع مع أنه أصم:
سريعةُ جري الخط
تنظم لؤ لؤا
وينثر دراً لفظها
المترشفُ
وزادت لدنيا حظوة
ثم أقبلت
وفي إصبعها أسمر
اللون مرهِفُ
أصم سميع ساكن
متحرك
ينال جسيمات المدي
وهو أعجفُ
* ويقول شاعر في أحد الكُتاب:
لك القلم الأعلى
الذي لم يجر إلا
أبان لك العدو من
الولي
إذا استرعفته ألقي
سوادا
علي القرطاس أبهر
من حلي
فيا طوبي لمن أدلي
إليه
بإحسان وويل للمسي
شباه سنانه في
الحرب أمضي
وأنفذ من شباه
المهري
فذاك سلاح مثلك وهو
يعزي
سلاح الفارس البطل
الكمي
(الشباه: طرف السيف وحده)
* وقال شاعر في قلم حسن الصنع لفتيً كاتب:
فتي لو حَوي الدنيا
لأصْبَحَ عَارياً
من المال معتاضاً
ثياباً من الشكر
له ترجمان أخْرَس
اللفظ صامت
على قاب شبر بل يَزِيْد
على الشبر
(أحسن
قدود الأقلام ألا يتجاوز به الشبر بأكثر من جفلته)
*
أما ابن المعتز فيصف القلم قائلاً:
عليم
بأعقاب الأمور كأنه
لمختلفات
الظن يَسمَع أو يري
إذا
أخذ القرطاس خلت يمينه
يفتح
نورًا أو ينظم جوهرًا
*
ويقول الشاعر مثنياً علي شرف القلم وأهميته:
كفي
قلم الكتّاب مجداً ورفعةً
مدي
الدهر أن اللهَ أقْسَمَ بالقلم
*
أما أمير الشعراء – أحمد شوقي- فيقول
عن قلم شكسبير – الشاعر الإنجليزي
المعروف:
له
قلمٌ ماضي الشّباةِ كأنما
أقام
بشقيه القضاءُ المُحّتمُ
ولوعٌ
بتصوير الطباع فلم يَجُزْ
بعاطفة
إلا حسبناه يَرْسُم
*
وفي الختام نورد ما قاله الحسين بن عبد الله العبدي الهمداني الكاتب عن القلم:
ناحل
جسمه كأن يد البين
سقته
منـــه بكأس دهاق
فإذا
مَجه أتي بلعاب الـ
ليل
حلو الخطاب مُر المذاق
وشبيهاتة
ثلاث حوته
هن
منــه مفـاتحُ الأرزاق
يمتطيهن
ثم يرتجل القول
لفصل
الخطاب في الآفاق
فتراه
بمصر يحلم ما شاء
وبالصين
وهو خلفَ العراقِ
والله الموفق .
(*) مصر – طنطا –
دمشيت.
هاتف
محمول : 0109356970(002)
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان وشوال
1432هـ = أغسطس- سبتمبر 2011م ، العدد : 9-10 ، السنة : 35